Ads 468x60px

أقسام المدونة

الأحد، 15 يوليو 2012

قصتي مع جريدة "الشعب"


الحلقة الثانية (02)

حينما هممت بنشر هذه الخواطر حول ممارسة المهنة الصحفية عدت إلى المجلد الأول من جريدة "الشعب" اليومية وتصفحته، وحاولت أن أتذكر الظروف التي اكتنفت صدور العدد الأول من هذه اليومية الوطنية  (فاتح يوليو 1975) حيث كنت أحد أفراد ذلك الرعيل الذي ضحى لينجح هذا المشروع الصحفي الذي  كان حلما بذل رواد المهنة الغالي والنفيس من اجل أن يتحقق .
بعد مرور ما يقارب  (37)  سنة على ذلك التاريخ أتذكر أن الشركة الوطنية للصحافة في ظل المدير المؤسس السيد محمد يحظيه ولد العاقب عاشت تعبئة شاملة لعدة أسابيع، أما طاقم "الشعب" العربية فقد شهد ولعدة شهور استنفارا دائما، ولكن العبء الأكبر كان يقع على زميلي وصديقي رئيس التحرير السيد الخليل النحوي الذي لم يعرف النوم ولا الراحة لفترة طويلة.
وكنت اشعر -وأنا معه في ذلك الوقت- أنه يواجه عدة تحديات لم يكن أقلها شأنا فرض جريدة عربية في محيط غير ملائم لها؛ مصادر الأخبار كلها بالفرنسية، الخطب والبيانات بل وكل المعلومات بالفرنسية، وكذلك الأخبار الدولية مترجمة كلها.
في الأسابيع الأولى كنا نواصل العمل في مقر الشركة الوطنية للصحافة في مبنى يوجد على شارع الملك فيصل (مبنى ملاصق حاليا لمقر طبيب الأسنان المصري الشهير المسمى مرسي)، وفي الليل نتجه جميعا إلى مبنى المطبعة الوطنية: النهار لجمع الأخبار وكتابة المقالات وإعداد الماكيت، وفي الليل للتنفيذ في ظل ظروف قاسية جدا بالمقارنة مع ما عليه الحال اليوم.

v     عمليات التيبو:
كانت الطباعة باليونوتب، وهي - لمن لا يعرفها - آلة حديدية يزيد طولها على مترين، وعرضها على متر ونصف تقريبا، لها مستودع للحروف المحفورة على شريحة من النحاس، وحينما يضرب الطابع على الحروف في اللوحة أمامه تخرج الشريحة إلى مصفف الحروف، وعندما يكتمل السطر يقوم الطابع بالضغط على المصفف الذي يمرر الحروف على المرجل، الذي يغلي دائما بالرصاص، فيخرج السطر رصاصا وقد طبعت عليه الحروف مقلوبة، فيسقط السطر الجديد في خانة الأسطر المطبوعة، وتعود الشرائح النحاسية إلى مكانها لتبدأ دورة سطر جديد.. وهكذا إلى أن تمتلئ الإضبارة الحديدية بالأسطر مشكلة عمودا، حسب تعبيرنا حينها.
ثم تبدأ عملية جديدة يقوم بها فني يسمى "الموضب" هو الذي يأخذ الرصاص المطبوع عليه ويمرره فوق ورقة بيضاء تسمى "الجذاذة" تسلم للمصحح من أجل تصحيحها وإذا كانت هناك أخطاء تعاد إلى الطابع ليصححها.
نصل بعد ذلك إلى  عملية إعداد الصفحة بشكل نهائي ينفذها "الموضب" بناء على "ماكيت" أمامه أعدها المخرج الذي يكون - في أغلب الحالات- حاضرا .
يرتب "الموضب" المادة ويترك مكانا فارغا للصور - إذا كانت موجودة -  والصورة تعد في المخبر على شرائح من الزنك.
بعد هذا التنفيذ تسحب الصفحة سحبا أوليا لتصحيحها النهائي ثم إعطاء الإذن بسحبها نهائيا وهذا الأمر المكتوب والموقع من اختصاص سكرتير التحرير، ولا يعطيه إلا بعد أن يتأكد من تصحيح جميع الأخطاء ويأخذ الصور ويضعها في أمكنتها بعد أن يتأكد من جودتها.
ويبقى بعد هذه المرحلة ثلاث مراحل لا يحضرها الصحفيون في العادة، هي السحب، والقص، والطي..
وما أكثر المشاكل التي تقع بين الطابع والمصحح وبين المصحح والموضب، وبين الموضب والمخرج، وبين سكرتير التحرير والساحب، ويقع ذلك عادة في أوقات متأخرة من الليل، وقد أخذ الإعياء والتعب من الجميع كل مأخذ.. وتتغلب الحكمة وضبط النفس على التشنج والغضب في غالب الحالات.
لقد أردت تفصيل هذه العمليات الطباعية لأن الأجيال الحالية من الصحفيين لا تعرف جلها فقد توقفت عمليات "التيبو" منذ وسط الثمانينات من القرن الماضي.
يبرز ذلك مدى المشقة التي عاناها الطاقم المؤسس لجريدة "الشعب" من أجل أن تنجح هذه التجربة.

v     كيف كانت بدايتي:
كانت البداية صعبة بالنسبة لهذه التجربة التي جرى التحضير لها على مدى عدة سنوات.. وكانت بداية صعبة كذلك بالنسبة لي شخصيا يومئذ وأنا شاب لم أتجاوز العشرين من عمري بزاد معرفي متواضع..
كنت أتابع دراستي بالثانوية في روصو (باللغة الفرنسية) حينما قررت أن أخوض امتحان الشهادة الإعدادية باللغة العربية واتجه نحو العمل.. وشجعني على الصحافة بعض أساتذتي.. وإنما الذي شجعني كثيرا وآزرني هو صديقي وأخي الخليل النحوي الذي التحق بالعمل الصحفي قبل ذلك بثلاث سنوات..
كان علي أن أشارك في مسابقة نظمتها إدارة الصحافة المكتوبة حينها وأشرف عليها أستاذنا المرحوم أحمدو ولد احميد الذي يعد بحق أحد أبرز رواد الصحافة في هذا البلد.. وما زلت أتذكر موضوع هذه المسابقة الذي تقدم به الأستاذ أحمدو وهو بالنص:
"في سنة 1956 أمم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قناة السويس وفي سنة 1974 أمم الرئيس المختار ولد داداه مفرما: حلل وناقش".
وبفوزي في هذه المسابقة التحقت بفريق "الأخبار" الذي كان يحضر لإصدار يومية "الشعب".
و"الشعب" التي استحوذت على كل تجربتي المهنية هي بحق المدرسة المهنية الأساسية للصحافة الموريتانية وهي الأم التي رعت جل الصحفيين المهنيين في العقود التي سبقت نهضة الصحافة الحرة في التسعينات، كما ورد في موسوعة الصحافة العربية.
ولم تكن جريدة "الشعب" لتنطلق وتستمر لولا الجهود الرائدة لكوكبة من الصحفيين والفنيين الذين كانوا رمزا للتفاني والإخلاص للمهنة، هؤلاء زرعوا فينا روح المثابرة والجدية وعلمونا كيف نتحمل المسؤولية.. وأعرب عن عرفاني بالجميل لهم جميعا.
كانت الحاجة في ذلك الوقت أن يكون الصحفي متعدد المواهب والاختصاصات، وهو يمارس كل ذلك فقد علمنا أول رئيس تحرير للشعب السيد / الخليل النحوي أن الصحفي يمارس الروبرتاج والتحقيقات وكتابة الزوايا والمقالات والترجمة والإخراج والتصحيح.
هذا التكوين جعلني أمارس كل الأشكال الصحفية، ومكن "الشعب" من أن تواصل مسيرتها بفريق من الصحفيين تمسك بأخلاق مهنية عالية على الرغم من الظروف الصعبة التي عاشها.
فبعد أشهر قليلة من انطلاقة "الشعب" اندلعت شرارة حرب الصحراء..  ولم أنس ذلك اليوم، ونحن بالمطبعة لتهيئة عدد جديد حينما سمعنا أصوات القذائف تنهمر لتسقط على مقربة منا، خلال ما عرف حينها "بضرية نواكشوط الأولى" وعلى الرغم من الظروف الاستثنائية في تلك الليلة فقد حرص المدير العام محمد يحظيه ولد العاقب  على عودة  الجميع إلى المطبعة وإصدار العدد الموالي في وقته العادي، حاملا وجهة النظر الرسمية لما حدث.
حينما أراجع المجلدات الأولى لجريدة "الشعب" أجد أنه ينشر لي تارة  في العدد الواحد تحقيق أو مقابلة مع زاوية يومية، وكان عنوان هذه الزاوية التي أكتب فيها حينها هو "هوامش ملونة"، هذا علاوة على الأخبار التي أنجزها أو أترجمها، فقد عينت رئيس  قسم "الأخبار الوطنية" بعيد انطلاقة الشعب وبقيت فيه إلى أن ترقيت إلى منصب رئيس تحرير بعد سبع سنوات من العمل الشاق والدؤوب الذي لم أعرف فيه أي فراغ ولا أية حياة خاصة. كان العمل الصحفي ليل نهار هو حياتي.

v     قصص من المعاناة:
عانيت  - كما عانى زملائي - من سوء فهم هذه المهنة التي نمارسها من طرف أصحاب القرار ومن طرف غيرهم، وما أكثر الحالات التي عشناها في هذا المجال.
وأتذكر:
ذات مرة – في سنة 1979 - نشرنا في "الشعب" خبر انقلاب على رئيس إفريقي تم شنقه وظهرت صورة هذا الرئيس مع الخبر في أسفل الصفحة مع أن أعلى الصفحة توجد فيه صورة لرئيس الدولة / وتمت قراءة ذلك على أننا نتمنى لرئيسنا أن يشنق مثل الرئيس الإفريقي الذي نشرت صورته، وكان المطلوب أن نضحي بأحد الزملاء ليكون كبش فداء، وطبعا رفضنا ذلك.
وقد دفعت  شخصيا عدة مرات ثمن حساسية المديرين العامين من أسلافهم المباشرين:
كان ذلك لأول مرة في مستهل سنة 1982 حينما نشرت تقريرا عن حصيلة نشاطات المؤسسة التي تصدر عنها "الشعب" في السنة الماضية؛ وكنت إذ ذاك رئيسا للتحرير وتزامن ذلك مع تعيين مدير عام جديد اعتبر أن التقرير تمجيد لسلفه، وكان ذلك من جملة الأسباب التي أدت إلى إعفائي من رئاسة التحرير.
مرة أخرى في سنة 1988 وكنت كذلك رئيسا لتحرير "الشعب" وتزامنا مع إقالة مدير عام سابق وتعيين مدير عام جديد للمؤسسة كتبت في ركني اليومي "قبس" إحدى قصص الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز وعلقت عليها بأن عدالته هي التي أدت إلى تعلق الناس به وأنه من المفيد أن يظهر في إدارتنا من إذا أقيل بكاه العمال وتأسفوا على مغادرته؛ فهم الوزير حينها من ذلك أنني لا أرحب بالمدير الجديد وطلب - حسب ما نقل عن المدير العام الجديد - إقالتي من منصبي وهو ما تم بالفعل.
بعد ذلك وقد غادرت المسؤولية في التحرير كرئيس تحرير وكمدير للتحرير ولكنني استأنفت كتابة زاويتي "قبس" - وكان ذلك في سنة 2004 - حينها كتبت عن أحد المديرين السابقين مثمنا خصاله وكفاءته وقد غادرنا إلى غير رجعة رحمه الله، فتمت مصادرة هذه الزاوية وتوقفت عن كتابة هذا الركن لذلك السبب و إلى حد الساعة.
في الحلقة القادمةشاهد من أهل "الشعب" (3) : عام 1975: أمل في النهوض لولا حرب الصحراء.

0 التعليقات:

إرسال تعليق